فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان قد بدأ بالناظر لأنه أولى بالاعتبار وأقرب إلى الادكار، ثنى بمن نقلت إليه الأخبار فقال: {أو ألقى} أي إلقاء عظيمًا بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل {السمع} أي الكامل الذي قد جرده عن الشواغل من الحظوظ وغيرها إذا سمع ما غاب عنه {وهو} أي والحال أنه في حال إلقائه {شهيد} أي حاضر بكليته، فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر، فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه، فيتذكر بما ذكرناه به عن قدرتنا من الجزئيات ما أنتجه من القدرة على كل شيء، ورأى مجد القرآن فعلم أنه كلام الله فسمعه منه فصدق الرسول، وقبل كل ما يخبر به، ومن سمع شيئًا ولم يحضر له ذهنه فهو غائب، فالأول العالم بالقوة وهو المجبول على الاستعداد الكامل فهو بحيث لا يحتاج إلى غير التدبر لما عنده من الكمال المهيأ بفهم ما يذكر به القرآن، والثاني القاصر بما عنده من كثافة الطبع فهو بحيث يحتاج إلى التعليم فيتذكر بشرط أن يقبل بكليته، ويزيل الموانع كلها، فلذلك حسن جدًا موقع أو المقسمة وعلم منه عظيم شرف القرآن في أنه مبشر للكامل والناقص، ليس منه مانع غير الإعراض. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}.
بمعنى قريبًا أو بمعنى قريب، والأول أظهر وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما وجه التقريب، مع أن الجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب؟ نقول: الجواب: عنه من وجوه: الأول: أن الجنة لا تزال ولا تنقل، ولا المؤمن يؤمر في ذلك اليوم بالانتقال إليها مع بعدها، لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل: فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة، فما الفائدة في قوله: {أزلفت الجنة}؟ نقول إكرامًا للمؤمن، كأنه تعالى أراد بيان شرف المؤمن المتقي أنه ممن يمشي إليه ويدني منه.
الثاني: قربت من الحصول في الدخول، لا بمعنى القرب المكاني، يقال يطلب من الملك أمرًا خطيرًا، والملك بعيد عن ذلك، ثم إذا رأى منه مخايل إنجاز حاجته، يقال قرب الملك وما زلت أنهي إليه حالك حتى قربته، فكذلك الجنة كانت بعيدة الحصول، لأنها بما فيها لا قيمة لها، ولا قدرة للمكلف على تحصيلها لولا فضل الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يدخل الجنة إلا بفضل الله تعالى، فقيل: ولا أنت يا رسول الله، فقال: ولا أنا» وعلى هذا فقوله غير نصب على الحال، تقديره قربت من الحصول، ولم تكن بعيدة في المسافة حتى يقال كيف قربت.
الثالث: هو أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن.
وأما إن قلنا إنها قربت، فمعناه جمعت محاسنها، كما قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ الأنفس} [الزخرف: 71].
المسألة الثانية:
على هذا الوجه وعلى قولنا قربت تقريب حصول ودخول، فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ} أي في ذلك اليوم ولم يكن قبل ذلك، وأما في جمع المحاسن فربما يزيد الله فيها زينة وقت الدخول، وأما في الحصول فلأن الدخول قبل ذلك كان مستبعدًا إذا لم يقدر الله دخول المؤمنين الجنة في الدنيا ووعد به في الآخرة فقربت في ذلك اليوم.
وثانيهما: أن يكون معنى قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة} أي أزلفت في الدنيا، إما بمعنى جمع المحاسن فلأنها مخلوقة وخلق فيها كل شيء، وإما بمعنى تقريب الحصول فلأنها تحصل بكلمة حسنة وإما على تفسير الإزلاف بالتقريب المكاني فلا يكون ذلك محمولًا إلا على ذلك الوقت أي أزلفت في ذلك اليوم للمتقين.
المسألة الثالثة:
إن حمل على القرب المكاني، فما الفائدة في الاختصاص بالمتقين مع أن المؤمن والكافر في عرصة واحدة؟ فنقول قد يكون شخصان في مكان واحد وهناك مكان آخر هو إلى أحدهما في غاية القرب، وعن الآخر في غاية البعد، مثاله مقطوع الرجلين والسليم الشديد العدو إذا اجتمعا في موضع وبحضرتهما شيء لا تصل إليه اليد بالمد فذلك بعيد عن المقطوع وهو في غاية القرب من العادي، أو نقول: إذا اجتمع شخصان في مكان وأحدهما أحيط به سد من حديد ووضع بقربه شيء لا تناله يده بالمد والآخر لم يحط به ذلك السد يصح أن يقال هو بعيد عن المسدود وقريب من المحظوظ والمجدود، وقوله تعالى: {غَيْرَ بَعِيدٍ} يحتمل أن يكون نصبًا على الظرف يقال اجلس غير بعيد مني أي مكانًا غير بعيد، وعلى هذا فقوله غير بعيد يفيد التأكيد وذلك لأن القريب قد يكون بعيدًا بالنسبة إلى شيء، فإن المكان الذي هو على مسيرة يوم قريب بالنسبة إلى البلاد النائية وبعيد بالنسبة إلى متنزهات المدينة، فإذا قال قائل أيما أقرب المسجد الأقصى أو البلد الذي هو بأقصى المغرب أو المشرق؟ يقال له المسجد الأقصى قريب، وإن قال أيهما أقرب هو أو البلد؟ يقل له هو بعيد.
فقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة} {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي قربت قربًا حقيقيًا لا نسبيًا حيث لا يقال فيها إنها بعيدة عنه مقايسة أو مناسبة، ويحتمل أن يكون نصبًا على الحال تقديره: قربت حال كون ذلك غاية التقريب أو نقول على هذا الوجه يكون معنى أزلفت قربت وهي غير بعيد، فيحصل المعنيان جميعًا الإقراب والاقتراب أو يكون المراد القرب والحصول لا للمكان فيحصل معنيان القرب المكاني بقوله غير بعيد والحصول بقوله: {أُزْلِفَتْ} وقوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} مع قوله: {أُزْلِفَتْ} على التأنيث يحتمل وجوهًا: الأول: إذا قلنا إن {غَيْرِ} نصب على المصدر تقديره مكانًا غير.
الثاني: التذكير فيه كما في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] إجراء لفعيل بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول.
الثالث: أن يقال: {غَيْرِ} منصوب نصبًا على المصدر على أنه صفة مصدر محذوف تقديره: أزلفت الجنة إزلافًا غير بعيد، أي عن قدرتنا فإنا قد ذكرنا أن الجنة مكان، والمكان لا يقرب وإنما يقرب منه، فقال: الإزلاف غير بعيد عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)}.
ثم قال تعالى: {هذا مَا تُوعَدُونَ} قال الزمخشري: هي جملة معترضة بين كلامين وذلك لأن قوله تعالى: {لِكُلّ أَوَّابٍ} بدل عن المتقين كأنه تعالى قال: (أزلفت الجنة للمتقين لكل أواب) كما في قوله تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] غير أن ذلك بدل الاشتمال وهذا بدل الكل وقال: {هذا} إشارة إلى الثواب أي هذا الثواب ما توعدون أو إلى الإزلاف المدلول عليه بقوله: {أُزْلِفَتْ} [ق: 31] أي هذا الإزلاف ما وعدتم به، ويحتمل أن يقال هو كلام مستقل ووجهه أن ذلك محمول على المعنى لا ما يوعد به يقال للموعود هذا لك وكأنه تعالى قال هذا ما قلت إنه لكم.
ثم قال تعالى: {لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} بدلًا عن الضمير في {تُوعَدُونَ}، وكذلك إن قرىء بالياء يكون تقديره هذا لكل أواب بدلًا عن الضمير، والأواب الرجاع، قيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر، والحفيظ الحافظ للذي يحفظ توبته من النقض.
ويحتمل أن يقال الأواب هو الرجاع إلى الله بفكره، والحفيظ الذي يحفظ الله في ذكره أي رجع إليه بالفكر فيرى كل شيء واقعًا به وموجدًا منه ثم إذا انتهى إليه حفظه بحيث لا ينساه عند الرخاء والنعماء، والأواب الحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ، وفيه وجوه أخر أدق، وهو أن الأواب هو الذي رجع عن متابعة هواه في الإقبال على ما سواه، والحفيظ هو الذي إذا أدركه بأشرف قواه لا يتركه فيكمل بها تقواه ويكون هذا تفسيرًا للمتقي، لأن المتقي هو الذي أتقى الشرك والتعطيل ولم ينكره ولم يعترف بغيره، والأواب هو الذي لا يعترف بغيره ويرجع عن كل شيء غير الله تعالى، والحفيظ هو الذي لم يرجع عنه إلى شيء مما عداه.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)}.
وفي {مِنْ} وجوه.
أحدها: وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال: يا من خشي الرحمن أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع.
وثانيها: {مِنْ} بدل عن كل في قوله تعالى: {لِكُلّ أَوَّابٍ} [ق: 32] من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمن بالغيب، ثالثها: في قوله تعالى: {أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق: 32] موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك، فقوله تعالى: {مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب} بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري، وقال لا يجوز أن يكون بدلًا عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه، فتكون {مِنْ} موصوفًا بها ومن لا يوصف بها لا يقال: الرجل من جاءني جالسني، كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني، هذا تمام كلام الزمخشري، فإن قال قائل إذا كان {مِنْ} والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما؟ نقول: الأمر معقول نبينه في ما، ومنه يتبين الأمر فيه فنقول: ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحًا تقول أولًاإنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك، فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث المعقول، وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفًا للغير يكون معناه شيء له كذا، فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة، والحقائق لا تقع صفات، وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من.
وفي الآية لطائف معنوية.
الأول: الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي، وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعًا مهيبان، والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ وف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأنعام: 63] و{تَضَرُّعًا وَخِيفَة} [الأعراف: 205] والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن الله تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي {هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37] أي تخافهم إعظامًا لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم، وقال تعالى: {لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ} [العنكبوت: 33] أي لا تخف ضعفًا فإنهم لا عظمة لهم وقال: {يخافون يَوْمًا} [الإنسان: 7] حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} [فصلت: 30] أي بسبب مكروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم، وقال تعالى: {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] وقال: {إِنّى أَخَافُ إِنْ يَقْتُلُونَ} [القصص: 33] لوحدته وضعفه وقال هارون: {إِنّى خَشِيتُ} [طه: 94] لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال: {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] حيث لم يكن لضعف فيه، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملًا لخشية من ضعف الخائف، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية.
الثانية: قال الله تعالى ههنا: {خَشِىَ الرحمن} مع أن وصف الرحمة غالبًا يقابل الخشية إشارة إلى مدح المتقي حيث لم تمنعه الرحمة من الخوف بسبب العظمة، وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبىء عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] لأن {إِنَّمَا} للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة، وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد هاهنا شيئًا آخر، وهو أن نقول لفظة: {الرحمن} إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع، وذلك لأن الرحمن معناه واهب الوجود بالخلق، والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة، ورحيم حيث أبقى بالرزق، ولا يقال لغيره رحيم لأن البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر، فيقال فلان هو الذي أبقى فلانًا، وهو في الآخرة أيضًا رحمان حيث يوجدنا، ورحيم حيث يرزقنا، وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} إشارة إلى كونه رحمانًا في الدنيا حيث خلقنا، رحيمًا في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين الرحمن الرحيم} أي هو رحمن مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانيًا، واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك:
{مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] أي يخلقنا ثانيًا، ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم، إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره، فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي، فإذا كان الله تعالى رحمانًا منه الوجود ينبغي أن يخشى، فإن من بيده الوجود بيده العدم، وقال صلى الله عليه وسلم: «خشية الله رأس كل حكمة» وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير الله وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين، وربما يقدر الله عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار، لأن غير الله إن لم يقدر الله أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير الله فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب، وأما الله تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه، وقال تعالى: {بالغيب} أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين، وقوله تعالى: {وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} إشارة إلى صفة مدح أخرى، وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع، وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب، فيأتي المخشي وهو (غير) خاش فقال: {وَجَاء} ولم يذهب كما يذهب الآبق، وقوله تعالى: {بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} الباء فيه يحتمل وجوهًا ذكرناها في قوله تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ} [ق: 19].
أحدها: التعدية أي أحضر قلبًا سليمًا، كما يقال ذهب به إذا أذهبه.
ثانيها: المصاحبة يقال: اشترى فلان الفرس بسرجه أي مع سرجه، وجاء فلان بأهله أي مع أهله.
ثالثها: وهو أعرفها الباء للسبب يقال: ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال: جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى الله فجاء بسبب قلبه المنيب، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: {إِذَا جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] أي سليم من الشرك، ومن سلم من الشرك يترك غير الله ويرجع إلى الله فكان منيبًا، ومن أناب إلى الله برىء من الشرك فكان سليمًا ثم قال تعالى: {ادخلوها بِسَلامٍ}.